File:تمبكتو المدينة الاسطورة.jpg

العربية: بعد وصولي الى تمبكتو تعرّفت على احد الأصدقاء من السكان المحلّيين و الذي عرض عليا استضافتي في منزله طيلة فترة اقامتي … قبل دخولي للمدينة كان من الضروري ان اتخفى في بعض الملابس المحلّية حتى لا اثير شكوك الأهالي … انطلقنا عبر الدّراجة الى وسط البلدة التي ملأها سكون خافت و حذر غريب … كانت نظرات الريبة تعلو مراسم المارين بجانبي متجهة نحو ملامح وجهي المنهكة و الغريبة عن ابناء تمبكتو و التي لم يخفّف من حدّتها الا القاء تحية الإسلام ... السلام عليكم … تلك الكلمة السحريّة و لغتي العربيّة و هويتي الاسلاميّة و بعض الملابس الصحراويّة كانت جواز عبوري بين سكّان المدينة اردت ان اشاهد كتب و مخطوطات تمبكتو القديمة… لدى وصولي الى المكتبة الاقدم في افريقيا وجدت انه قد تم نسفها و احراق و سرقة بعض محتوياتها النفيسة من الرسائل و الكتابات … اتجهت صوب منزل احد شيوخ البلدة و الذي رحب بي و استضافني عنده ثم دعاني لمشاهدة احدى التحف المخفيّة … في مطبخ احدى البيوت العتيقة في تمبكتو و وسط بعض الأثاث المبعثر يخفى هنا احد كنوز الحضارة البشرية … عليك ان تاتي حتى هذا المكان كي تصدّق عيناك … كتب و رسائل و مخطوطات للطب و الهندسة و الفلك يعود عمرها الى اكثر من الف سنة محفوظة داخل صناديق حديديّة يعلوها الغبار و مختومة بخيوط العنكبوت الشاحبة والمملوءة بالعثّ … وجدت ملاذا في تلك المكتبة و كأنّ الزّمان قد توقّف فيها ... غادرت منزل الشيخ عبد الواحد نحو ازقة المدينة العتيقة من مسجد جينكريبر نحو جامع سنكَري الى سيدي يحيى ... يعتريك احساس بالحنين عندما تتنزه في تلك الاحياء و تتخيل حياة الماضي ... كل شيء هنا يأخذك نحو الأزمنة الغابرة لأيام كانت فيها تمبكتو عاصمة للثقافة و المعمار و الفن و منارة للعلماء و الفقهاء ... أكملت مسيري واضعا خطاي في الطرقات الخفية التي كانت تسلكها القوافل القديمة ... من هذه البلدة خرج الامبراطور أبو بكر الثاني في أولى الحملات نحو القارة الامريكيّة حيث استقر هناك اي قبل ان يصلها المستكشف الأمريكي كريستوف كولمبس بأكثر من مائتي سنة ... مدينة الذهب ذكرى ماثلة في كتب التاريخ و حكايات الرحالة و المغامرين ... في عصرها الذهبي كانت تمبكتو حاضرة امبراطورية مالي و زعيمها منسا موسى و الذي تسبّبت رحلة حجّه الى مكة في انخفاض سعر الذهب بالعالم لكثرة ما وزعه على طول طريقه ... رحلة أدخلت اقتصاد العالم كلّه في حالة تضخم سريع لعشرين سنة تالية بسبب ذهب تلك السّفرة ... هنا توقّف التاريخ و انقلب الزمان ... اردت ان افهم سر اندثار كل تلك الحضارة و انقراضها و لماذا تدحرجت المدينة نحو الظلام بعد ان كانت مناراتها لا تنطفئ ... اردت ان اعلم خفايا الحرب المستعرة في تلك المناطق ... قادتني الطريق نحو مضارب الطوارق ... قبلت الناطق الرسمي باسم حركة الثوار و شيوخ القبائل و بطونها ... تم اعتباري من كبار الزوار و تكريمي برتبة النبلاء طيلة اقامتي بتمبكتو و قاموا بتعيين احد افراد العشيرة من طبقة الاتباع ليرافقني و يسهّل تنقلي و يخفف عني أعباء الترجمة و البحث عن الأماكن و التقاطعات ... مدينة تمبكتو اليوم موطن لأربعة عرقيات اكبراها السوراي الذين يتحدّثون الكوربوراتية ثم الطوارق ولغتهم التماشاق و العرب الحسّانيّة و الفلان ... و ينقسم كل عرق الى خمس طبقات اعلاها النبلاء يتضمّنها الفقهاء و المحاربين ثم الاتباع و الفلاحين و الحرفيّين و أخيرا الموالي باستثناء العرب من المغاربة والمور الذين امتهنوا التجارة و انعزل بعضهم لتدريس القران و الفقه ... مضيت خارج حدود المدينة نحو أطرافها الى طريق الموت كما تسمّى هنا... على مشارف البلدة لاتزال الحرب مستعرة بين الجهادين و الثوّار الانفصاليين و قوات لحفظ السلام... أصوات اطلاق النار كانت قد حاصرتني في احدى البوادي النائية لتمبكتو فلم البث ان غادرتها بعد تدخّل الاقوات الامميّة ... عدت الى جامعة المدينة واستقبلني الشيخ عبد الواحد مرة أخرى واكرمني بمأدبة و كبش على شرف زيارتي ... منذ سبعة سنوات لم يجرا أي اجنبي على زيارة تمبكتو و لعلّ دخولك اليها اليوم يكون فاتحة خير على البلدة و اهلها هكذا خاطبني الشيخ الكريم ... يجمع سكّان البلدة اليوم على ان المدينة تحتضر لكنهم يؤكدون على انها لن تموت و يوما ما سيعود النور لمنارتها كما كانت عليه في سابق عهدها ... نبرة حماس و بصيص امل خافت لاحظته في اعين جميع الحاضرين بعد القائي لكلمة صغيرة في احدى الندوات التي نظّمتها جامعة تمبكتو ... بعد ان تم تكريمي بشهادة فخريّة من الجامعة الاقدم في افريقيا عدت للتجول في احيائها ليلا ... بعد صلاة العشاء يجتمع الأهالي في حلقات الذكر و الزوايا لتدارس القران و الحديث فلا عجب ان تذكر المدينة في كتب التاريخ لتسمّى مدينة ال 333 قديس ... 333 من المرابطين قبورهم موزّعة على كافة ارجاء البلدة فحسب المعتقد الشعبي كان و لايزال هؤلاء الاولياء يحرسون المدينة و يحمون عاداتها و معتقداتها ... كلّ شيء متأصل هنا فحتى الاعراس و الافراح لاتزال على نفس المنوال المتبع لقرون خلت... تستمرّ مراسم الزواج لسبعة أيام و أهمها اليوم الاخير... حيث يجتمع الأهالي للف العمامة على راس العريس و تسليمه عصا رمزا للقيادة و المسؤوليّة... عند مغادرتك لتمبكتو لابد من المرور على منازل الرّحالة و المستكشفين من ألكسندر غوردون لينغ و الذي دفع حياته ثمنا للوصول الى المدينة التي كانت محرّمة على غير المسلمين الى روني كاياي اولّ أوروبي يعود حيّا من البلدة الى الحسن بن الوزان ليون الافريقي الذي كتب عنها فيقول " إن الوصول إلى تمبتكو هو سر أسرارها، فقد كانت ملتقى القوافل الذي يربط أهل أفريقيا غربا وشرقا، وكان الوصول بحد ذاته يعني نوعا من المغامرة، حيث لا يربطها بأي من عواصم التجارة المشهورة أية محطات لمن يؤمها " على مشارف المدينة و عند بوابات مطار تمبكتو المتهالك انتهت رحلتنا في المدينة الأسطورة رحلة اعدت فيها زيارة التاريخ و قراءة المستقبل و وجدت فيها معنى للتقاليد القديمة ...